تجارة المرض والمريض: حين يتحول الألم إلى سلعة

د. محمد رسول الطراونة

في عالمٍ تُقاس قيمته بالربح والمكاسب المادية، لم تسلم المنظومة الصحية في كثير من البلدان من تحوّلها إلى سوق استثماري تسوده قواعد العرض والطلب، ولم تسلم الرعاية الصحية، ولم يسلم الجسد الإنساني من أن يصير ساحةً للاستغلال التجاري. لقد تحوّلت ما يُفترض أن تكون حقاً إنسانياً وأخلاقياً مقدساً، إلى سوقٍ تتنافس فيه بعض الشركات والمؤسسات الطبية على تحويل المعاناة الإنسانية إلى مصدرٍ للربح، ما كان يُفترض أن يكون حقاً أساسياً للإنسان كفلته الدساتير أو قوانين الصحة، تحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى في وضح النهار، حيث تُستغل معاناة المرضى لتعظيم الأرباح.

هذه هي «تجارة المرض والمريض»، ظاهرة تثير تساؤلات أخلاقية وقانونية عن مدى أخلاقية تحويل الألم الإنساني إلى فرصةٍ للثراء، إنها تجارةٌ يُمكن وصفها بأنها استغلالٌ للحاجة الإنسانية للشفاء أو الخوف من المرض لتحقيق مكاسب مادية، سواءً عبر رفع أسعار الأدوية، أو الترويج لعلاجات غير ضرورية، أو تحويل المريض إلى مجرد رقم في ملفات أرباح المؤسسات الطبية وشركات التأمين. هذه الظاهرة ليست مجرد اختلالٍ أخلاقي، بل هي انعكاسٌ لثقافةٍ استهلاكية تجعل من الصحة سلعةً فاخرة، ومن الطب صناعةً تسبق غاياته التجارية رسالته الإنسانية.

تتصدر بعض شركات الأدوية العالمية المشهد في هذه التجارة المربحة، وتُهيمن على سوق الصحة عبر تحكمها في أسعار العقاقير، خاصةً تلك المرتبطة بأمراضٍ مزمنة كالسرطان والسكري. فبينما تدّعي هذه الشركات أن أسعار الأدوية المرتفعة تُغطي تكاليف البحث والتطوير، تكشف الوقائع عن ممارساتٍ احتكارية، فبراءات الاختراع تمنحها احتكارًا مؤقتًا ترفع خلاله الأسعار بشكلٍ مهول، مستغلةً حاجة المرضى الذين لا خيار لهم سوى الشراء.

أما القطاع الخاص، رغم الدور الذي يقوم به في تطوير البنية التحتية الصحية، إلا أن سعيه لتعظيم الأرباح يدفعه أحيانًا إلى ممارساتٍ مشكوكٍ فيها، مثل إجراء فحوصاتٍ أو عملياتٍ جراحية غير ضرورية، أو المبالغة في تشخيص الأمراض لزيادة الفواتير. في الهند مثلاً، كشفت دراسة أن 40% من عمليات القسطرة القلبية كانت دون حاجة فعلية. كما تتحول غرف الطوارئ إلى خطوط إنتاج، حيث يُعالَج المرضى بسرعةٍ لاستقبال المزيد، مما يُهدد جودة الرعاية. وفي ظل غياب الرقابة الصارمة، تتحول بعض المؤسسات الطبية الخاصة إلى آلاتٍ تُولّد الفواتير، حيث تكشف التقارير عن إجراء فحوصات مبالغ فيها أو عمليات جراحية أو تجميلية غير ضرورية تحت ذرائع واهية.

تعتمد بعض شركات التأمين الصحي على مبدأ «الربح من الخسارة»، فتضع شروطًا معقدة لرفض التعويضات، أو ترفع أسعار الاشتراكات للمرضى المزمنين، كما تُصمم بوالص تأمين ترفض تغطية علاجات أساسية أو تفرض شروطاً تعجيزية. في بعض الحالات، تُقيّد اختيار الأطباء أو المراكز الطبية، مما يُضعف حق المريض في تلقي أفضل علاج، بل إن بعض الشركات تستخدم بيانات المرضى لتحديد

«العملاء غير المرغوب فيهم» وتتجنب تغطيتهم، وفي أنظمة التأمين الربحية، يُصارع المرضى للحصول على موافقات علاجية، بينما تُخصص الشركات ميزانيات ضخمة «لمراجعة المطالبات» بهدف تقليل التعويضات. الضحايا الحقيقيون هم الأكثر فقراً، حيث يصبح الفقر حكماً بالإعدام.

في هذا السياق، تشير بيانات «منظمة الصحة العالمية» إلى أن 100 مليون شخص يُدفعون سنوياً إلى الفقر المدقع بسبب النفقات الصحية، بينما تزداد فجوة الوصول إلى العلاج بين الشمال والجنوب العالمي.

في ظل ضعف الرقابة، انتشرت سوقٌ موازية للطب البديل، تبيع الوهمَ عبر إعلاناتٍ جذابة عن أعشابٍ «تشفي السرطان» أو أجهزةٍ «توازن طاقة الجسم»، وغيرها من المنتجات التي تعج بها صفحات التواصل الاجتماعي. هذه المنتجات لا تستند إلى أدلة علمية، بل تُستغل فيها معاناة المرضى ويأسهم لتحقيق أرباحٍ سريعة. لا تقتصر آثار هذه التجارة على الجيب، بل تمتد إلى نفسية المريض الذي يكتشف أنه وقع ضحية استغلال. يشعر بالغضب والخيانة عندما يدرك أن دواءه الفاسد أو العملية غير الضرورية كانت مجرد وسيلة لتحقيق الربح، مما يهز ثقته في الأطباء كمهنةٍ نبيلة، وفي المؤسسات الصحية كملاذٍ آمن.

مواجهة هذه الظاهرة تتطلب إصلاحات جذرية، منها تشديد الرقابة عبر فرض قوانين تمنع الاحتكار الدوائي، وتُلزم الشفافية في تسعير الأدوية. ومن الإصلاحات العاجلة أيضًا تعزيز الطب الوقائي للحد من انتشار الأمراض المزمنة التي تُدر أرباحاً، وتثقيف المرضى بضرورة البحث عن معلومات طبية موثوقة، وعدم الانجراف وراء الوعود الكاذبة.

عند البحث عن حلول، يبرز السؤال: هل من عودة إلى روح الطب؟ التغيير يبدأ بإعادة تعريف الرعاية الصحية كحق وليس سلعة. بعض الدول، مثل كندا وبريطانيا، تتبنى أنظمة صحية تقدم تغطيةً صحية شاملةً وتُقلل من هيمنة القطاع الخاص. كما تبرز مبادرات لمحاربة الاحتكار الدوائي، كإنتاج الأدوية الجنيسة في دول مثل الهند. ومن الضروري أيضاً تعزيز الشفافية في تسعير الأدوية، وتشديد العقوبات على الممارسات الاحتيالية، وإعادة الربط بين الطب والأخلاق عبر تعليم مهني يركز على قيمة الإنسان قبل الربح. فالتحدي الأكبر ليس في مواجهة الأمراض، بل في مواجهة جشعٍ يُحوّل الطب إلى تجارة. حين يُصبح المريض مجرد رقم في سجل أرباح، يفقد الطب روحه الإنسانية. السؤال الذي يطرح نفسه: هل نستطيع وقف هذا التحول قبل أن يتحول الأمل في الشفاء إلى سلعة فاخرة؟

خلاصة القول، تجارة المرض ليست شذوذًا في النظام الصحي، بل نتيجة حتمية لتحويل الصحة إلى سلعة. لكنّ الخطر يكمن في تطبيع هذا الواقع، وقبول أن يكون المرضى – خاصة الفقراءُ ومن لا يملكون تأميناً صحياً – ضحايا أمراضٍ مزمنة مكلفة مادياً لكنها قابلة للعلاج، أو أن يُحرم المرضى من كرامتهم في لحظات ضعفهم.

إن النضال من أجل منظومة صحية عادلة هو جزء من النضال لإعادة تعريف القيمة الإنسانية في عالمٍ يهدده الاتجار حتى بأوجاعه.

أمين عام المجلس الصحي العالي السابق.

(الرأي)






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق